فشل الإعلام الأمريكي- تضخيم دور ترامب وتجاهل صمود غزة

في يوم الجمعة الموافق 17 يناير/كانون الثاني 2025، حينما وافقت إسرائيل أخيرًا على اتفاق الهدنة المُرتقب، انغمست وسائل الإعلام الأميركية في حملة ترويجية مُفرطة لدونالد ترامب، متجاهلةً المعاناة الإنسانية العميقة التي تكبدها الفلسطينيون، ومرددةً بلا كلل حملات الدعاية الإسرائيلية (الهاسبارا)، وعاجزةً عن استيعاب جوهر القضية بكل أبعادها.
دخلت الهدنة حيز التنفيذ الفعلي يوم الأحد، وذلك عقب تقديم حركة حماس قائمة بأسماء ثلاث أسيرات ليصبحن باكورة المفرج عنهن بموجب بنود الاتفاق، وذلك في مقابل إطلاق سراح ما يقارب 90 أسيرًا فلسطينيًا من سجون الاحتلال.
تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق ذاته كان قيد البحث والنقاش منذ شهور عديدة. بل إن جو بايدن نفسه قد اعترف صراحة بأنه قد وضع "الخطوط العريضة لهذا الاتفاق" في الحادي والثلاثين من شهر مايو/أيار لعام 2024. وفي سياق فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي، أشار رئيس وزراء دولة قطر، الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، إلى أن جذور الاتفاق تعود إلى شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2023.
تزامنت الأخبار الأولى عن الهدنة مع انشغال فريق الانتقال الرئاسي لدونالد ترامب بالدفاع المستميت عن الاختيارات الرئاسية المثيرة للجدل لتولي حقائب وزارية أميركية حساسة ومؤثرة، على غرار وزارة الدفاع (البنتاغون)، ووزارة الأمن الداخلي، ووزارة الصحة والخدمات الإنسانية. إلا أن الأنباء التي تحدثت عن الدور المحوري الذي لعبه ترامب في التوصل إلى الهدنة قد طغت على كل ما عداها.
وعلى الرغم من أن الاتفاق قد تحقق بفضل جهود مضنية بذلها مفاوضون من قطر ومصر وحماس وإسرائيل، بالإضافة إلى ممثلين عن كل من بايدن وترامب، فقد عمدت أغلب وسائل الإعلام الرئيسية إلى نسب الفضل في هذا الإنجاز إلى ترامب وحده دون سواه.
سرعان ما انعقد الإجماع شبه التام. ففي سياق التغطية الإخبارية الدولية، أشارت صحيفة "ذا غارديان" إلى أن "الضغط الحازم الذي مارسه ترامب" هو الذي دفع "نتنياهو أخيرًا إلى الموافقة على الاتفاق". وبالمثل، أشادت وسائل الإعلام الإسرائيلية بترامب، مؤكدةً أن نتنياهو كان "أكثر خوفًا من ترامب منه من بن غفير". وفي السياق ذاته، أكد صحفيون إسرائيليون آخرون أن ترامب قد بث الرعب في قلوب حركة حماس أيضًا، حيث كتبوا أن "ضغط ترامب" كان "مصدر قلق بالغ لحماس بلا شك".
تحولت رواية عن مبعوث ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، الذي وصل إلى القدس في صبيحة يوم السبت وأبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه لا يعتزم انتظار نهاية يوم السبت اليهودي (شبات)، إلى ما يشبه الأسطورة المتداولة. وبرزت صورة ترامب كرجل قوي ماهر في ليّ الأذرع، وهو ما يتماشى مع الثقافة الشعبية الأميركية السائدة، واكتسبت هذه الصورة أبعادًا أسطورية لا تخفى على أحد. وكما كتب ميرون رابابورت في مجلة "+972":
"ما كان ليتحقق أي اتفاق لولا أن دونالد ترامب العظيم والقوي أمسك بيد نتنياهو، وثناها خلف ظهره بقوة، ثم ثناها أكثر قليلًا، ثم أكثر قليلًا، ثم ضغط برأسه على الطاولة، وهمس في أذنه بأنه في لحظة ما سيركله في موضع بالغ الحساسية".
إن ما بدا ظاهريًا وكأنه انتصار لترامب كان في حقيقة الأمر نتيجة مباشرة لفشل ذريع ألمّ بجو بايدن في ممارسة أي ضغوط تُذكر على إسرائيل. بل إن بايدن قد شكّل استثناءً صارخًا للتاريخ الطويل الذي سطّره رؤساء الولايات المتحدة الذين حاولوا على مر العقود كبح جماح إسرائيل، بدءًا من نيكسون ووصولًا إلى ريغان.
ومع نقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية، واتفاقيات أبراهام، التي عدّتها حماس من بين الأسباب الموجبة لشن عملية "طوفان الأقصى"، يمكن اعتبار فترة ولاية ترامب الأولى واحدة من أسوأ الفترات على الإطلاق فيما يتعلق بتقويض جهود إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الأميركية تحتفي بترامب، كانت أقل انتقادًا لإسرائيل مقارنةً بالإعلام الإسرائيلي ذاته. فعلى سبيل المثال، أبدت شبكة "إن بي سي" دعمها المطلق لبنيامين نتنياهو مجددًا، وألقت باللوم على حركة حماس لعدم انخراطها في المفاوضات في وقت أسبق.
وفي برنامج "TODAY" الذي يُعرض على شبكة NBC، نسب المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في إدارة بايدن، جون كيربي، الفضل في تحقيق الاتفاق إلى "عزل وإضعاف حماس". وادعى كيربي بأن حماس كانت تضع العراقيل "مرة تلو الأخرى" وأنها "لم تكن مستعدة للتفاوض بنية حسنة على الإطلاق".
بيد أن نتنياهو قد أظهر بما لا يدع مجالًا للشك أنه لم يكن مهتمًا باستعادة الرهائن إذا كان ذلك يعني وقف عمليات الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشه، وأظهرت تقارير عديدة وموثوقة أن إسرائيل هي التي كانت ترفع سقف شروط الهدنة وتضع العقبات في طريق التوصل إليها. واستشهدت NBC بالمتحدث باسم نتنياهو، ديفيد مينسر، الذي ادعى زورًا وبهتانًا أن الهدنة لم تتحقق إلا بعد أن "غيرت حماس موقفها" من الاتفاق. وأشار مينسر بوقاحة إلى أن مقتل يحيى السنوار "لعب دورًا حاسمًا أيضًا".
ولكن هل هذا الادعاء المتداول صحيح بالفعل؟ وفقًا لمصادر إعلامية موثوقة تابعة لحركة حماس، فإن الخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في رفح وشمال غزة كانت فادحة، على الرغم من أن شمال غزة قد دُمّر بالكامل عن بكرة أبيه، واستمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي في قتل الفلسطينيين بدم بارد حتى اليوم الأخير الذي سبق سريان الهدنة.
ومع ذلك، كانت حركة حماس لا تزال تحتفظ بكامل قدرتها القتالية وإرادتها الصلبة، بل وحتى استغلال الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة لشن هجمات مباغتة ومفاجئة ضد قوات الاحتلال المتربصة. وذكر أبو عبيدة، المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، في حسابه الشخصي على تطبيق "تليغرام" بتاريخ 13 يناير/كانون الثاني، كيف اقتحم مقاتلو القسام الأبطال مبنى كانت تتحصن فيه قوة إسرائيلية قوامها 25 جنديًا من المشاة، "وتعاملوا معهم بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة، ما أسفر عن مقتل وإصابة جميع أفراد القوة الغاشمة".
أشارت المحللة البارعة رباب عبدالهادي إلى نقطة مماثلة خلال مكالمة عبر تطبيق "زوم" مع منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" (JVP)، حيث أكدت على صمود الفلسطينيين الأسطوري، قائلة: "إسرائيل تمتلك رابع أقوى جيش في العالم بأسره"، بينما الفلسطينيون لا يمتلكون شيئًا على الإطلاق، "ومع ذلك، يواصلون المقاومة الباسلة بكل ما أوتوا من قوة". وفي حين تعاني قوات الاحتلال الإسرائيلي من تدهور كبير ومريع في الروح المعنوية، لا تزال حركة حماس تتمتع بدعم شعبي جارف وغير مسبوق.
تجلى هذا الأمر بوضوح تام، وأثار إحراجًا بالغًا لإسرائيل، يوم السبت الموافق 25 يناير/كانون الثاني، عندما أطلقت حماس، وسط احتفاء جماهيري هائل في عرض مسرحي ضخم، سراح أربع مجندات إسرائيليات بزيهن العسكري الكامل. كانت الرسالة البصرية التي أرادت حماس إيصالها واضحة وضوح الشمس: لم يكن جميع الرهائن من المدنيين الأبرياء.
وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز" بنبرة ساخرة ومنتقصة أن عملية التسليم كانت مجرد "عرض أدائي"، لكنها اضطرت رغمًا عنها إلى الاعتراف بأن حماس قد أعدت "استعراضًا للقوة"، حيث وصفت المنصة المقامة في "ميدان فلسطين" بوسط مدينة غزة – المنطقة التي دمرتها حملة القصف الشرس والاجتياح البري الإسرائيلي الوحشي – والتي تضمنت لافتة كبيرة تحمل عبارة مدوية: "الصهيونية لن تنتصر أبدًا". كما أشارت الصحيفة المذكورة إلى تجمع حاشد ضم "مئات من المقاتلين الملثمين بالزي العسكري والمدنيين" في نفس المكان.
بدت لهجة الصحيفة ساخرة وناقدة بشكل لاذع، وكأنها تريد إيصال رسالة مفادها أن الفلسطينيين لم يتعلموا بعد أن المقاومة الصامدة أمر غير مقبول على الإطلاق. وفي إشارة غير واعية إلى تراجع أهميتها المتزايد كناطقة رسمية باسم إسرائيل، كتبت "نيويورك تايمز" أيضًا أن "المسلحين الذين يحملون كاميرات باهظة الثمن كانوا يتبعون الرهائن عن كثب، ربما لتصوير مقطع فيديو سيتم نشره على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي".
خارج نطاق الدوائر الإعلامية الأميركية السائدة، استمر الصحفيون والمحللون المستقلون في مناقشة الأسباب الحقيقية التي دفعت إسرائيل في نهاية المطاف إلى وقف قصف قطاع غزة المحاصر. وكتب رمزي بارود بأسى أن الفترة الفاصلة ما بين رفض إسرائيل وقبولها النهائي للاتفاق قد شهدت مقتل أو إصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء، على الرغم من أن هذه المجازر المروعة قد تم تجاهلها تمامًا أو التقليل من شأنها بشكل كبير في إسرائيل (وأضيف، في الولايات المتحدة أيضًا).
وخلص محمد شحادة، المستشار المتخصص في مجال حقوق الإنسان في منظمة "يوروميد"، إلى أن تدمير غزة بالكامل كان الهدف الرئيسي لإسرائيل منذ البداية. وأشار شحادة إلى ذلك في حوار مثير مع الصحفي المستقل بيتر بينارت، وذلك بعد أن راجع بدقة متناهية مختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية.
أما المحلل الدولي البارز يانيس فاروفاكيس، فقد تحدث بقلب يعتصره الألم عن أهوال غزة المروعة، ثم جادل بحرقة بأن "الدمار الشامل الذي ألحقته [إسرائيل] لا يترجم بأي حال من الأحوال إلى نصر حقيقي". فلا تزال إسرائيل عاجزة تمامًا عن السيطرة على قطاع غزة، والمقاومة المسلحة الباسلة لا تزال تدمر "دبابات إسرائيل العظيمة" تدميرًا. ولم تحقق إسرائيل أيًا من أهدافها المعلنة على الإطلاق، وخاصة الوعد الزائف بالقضاء التام على حركة حماس، كما صرخ أحد العناوين المثيرة للدهشة في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل": "للمرة الأولى في تاريخها، إسرائيل تخسر حربًا ضروسًا".
وبينما سخرت "ميدل إيست مونيتور" بمرارة من الجيش الإسرائيلي المهزوم، مشيرةً إلى أن الرهائن كانوا محتجزين أحياء في شمال غزة "تحت أنف قوات الاحتلال الإسرائيلي مباشرةً، مما يتحدى الرواية الإسرائيلية الزائفة بشأن حملتها العسكرية وقدراتها الاستخباراتية المزعومة".
يكمن الفرق الجوهري بين الاستعراض الإعلامي المتقن الذي أجرته حركة حماس والدعاية الإسرائيلية المضللة في أن حماس قد بنت رسالتها الصادقة على أرض الواقع الملموس. فقد كشفت صور الدمار الشامل والخراب الهائل في قطاع غزة زيف الأكاذيب والخداع والتبريرات الواهية التي قدمتها إسرائيل على الدوام.
فإسرائيل لم تخض حربًا نبيلة لتدمير حركة حماس، بل سعت بكل ما أوتيت من قوة إلى تدمير قطاع غزة بأكمله، وقد تم فضح عنفها الإبادي على نطاق واسع لم يسبق له مثيل. وكما قال رمزي بارود بحكمة: "إسرائيل تواجه الآن واقع فشل سياسي وعسكري ذريع على مستوى غير مسبوق في تاريخها." ومرة أخرى، خسرت إسرائيل أيضًا الحرب الإعلامية بلا رجعة.